-->

0
المجزوءة الثانية: المعرفة
 المفهوم الثاني : الحقيقة
 تقديم عام للمفهوم:   تتخذ الحقيقة في الخطابين الفلسفي والإبستمولوجي، في الفترتين الحديثة والمعاصرة عدة أوجه وأنماط فكرية، فقد تكون الحقيقة عقلية مع ديكارت - مثلا-، أو حسية مع التجريبيين، كدافيد هيوم، وجون لوك.، أو تكون حقيقة حدسية مع برجسون، أو تكون حقيقة برجماتية مع وليام جيمس..وقد تكون الحقيقة فطرية أو مكتسبة، وقد تكون يقينية مطلقة مع نيوتن، أو تكون منعدمة نيتشه...فما هي الحقيقة ؟  الحقيقة في اللغة:   من المعروف أن الحقيقة، في اللغة، هي الثبات والاستقرار والقطع واليقين ومخالفة المجاز. ومن ثم، فالحقيقة، في ( لسان العرب) لابن منظور، بمعنى الحق، والصدق، والصحة، واليقين، والوجوب، والرصانة، ومقابلة التجاوز. وفي هذا الإطار، يقول ابن منظور في لسانه:" بلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه. وترتبط الحقيقة، في معجم لالاند (Lalande) ، بالمعنى الحقيقي. وضمن هذا السياق، تتعارض الحقيقة مع الخطأ. كما أن الحقيقة تحيل على الواقع بالمفهوم المنطقي، فكل ما هو موجود فهو حقيقي، وما ليس موجودا فهو خطأ  الحقيقة في الاصطلاح:  الحقيقة ، في الاصطلاح، هي كل ما هو صادق وواقعي وثابت ويقيني، أوهي مطابقة الفكر للفكر، أو مطابقة الفكر للواقع ، أو كما يقول العرب:"الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان". وتتناقض الحقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمين والرأي والاعتقاد والباطل. وهل يمكن تأسيس الحقيقة على الرأي الشخصي والاعتقاد؟ وما مصادر الحقيقة ومعاييرها؟ وما هي قيمة الحقيقة؟
المجزوءة الثانية: المعرفة
 المفهوم الثاني : الحقيقة 
المحور الأول : الرأي والحقيقة 
 الإطار الإشكالي للمحور:  عندما نريد التحدث عن مفهوم الحقيقة داخل الخطاب الفلسفي ، يتبادر إلى أذهاننا مضاداتها العكسية. مما يدفعنا ذلك إلى طرح بعض الأسئلة العويصة والإشكاليات المعقدة، مثل:هل يمكن الحديث عن الحقيقة في معزل عن مقابلاتها كالوهم والرأي والاحتمال والاعتقاد؟ وهل يمكن أن نجعل من الرأي الشخصي سندا للمعرفة الحقيقية اليقينية أم أن الرأي مجرد حكم ذاتي تنقصه الحجة العلمية والبرهنة الحجاجية. و من ثم، يصعب علينا الاطمئنان إليه لبناء معرفة حقيقية أو حقيقة يقينية ؟  1- غاستون باشلار:الرأي عائق إبستمولوجي  تتقابل الحقيقة مع مجموعة من المفاهيم، كالرأي الشخصي، والظن، والاعتقاد، والاحتمال، والوهم. فالإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار يعتبر الرأي عائقا معرفيا ، يمكن التخلص منه أيما تخلص، من أجل تكوين معرفة علمية صحيحة وبناءة. فلا يمكن - علميا- بناء معارفنا واستدلالاتنا واستقراءاتنا وأقيستنا الرياضية والمنطقية والعلمية على مجموعة من الآراء الشخصية والمعتقدات العامة أو الخاصة أو الانطباعات المشتركة والحدوس المشوهة؛ لكونها آراء ذاتية شخصية نابعة من الوجدان والقلب والعاطفة، ومرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بينما الحقيقة العلمية نموذج للمعرفة الموضوعية التي تقوم على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا:" الرأي نوع من التفكير السيئ، بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق.إنه يترجم الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم، يحرم نفسه من معرفتها.إننا لا نستطيع أن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي. ولذلك، يجب القضاء عليه أولا. إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح. إذ ينبغي في البداية معرفة كيفية طرح المشاكل. وهذا المعنى الذي تتخذه المشكلة هو الذي يمنح العقل العلمي خاصيته الحقيقية". 2- موقف روني ديكارت :ضرورة مراجعة الآراء السابقة  يدعو روني ديكارت إلى ضرورة مراجعة الآراء السابقة لأن معارفنا وأفكارنا التي تلقيناها من المجتمع تحتوي على قدر كبير من الأخطاء، إلا أننا سلَّمنا بها واعتبرناها حقيقية وصادقة عبر التقليد والتلقين، وهي تحتاج إلى مراجعة ونقد يخلصها من تلك الأخطاء ويقيمها على أُسس صلبة، وطريقة هذا التخلص تتلخص في مبدأ الشك المنهجي العقلي الذي يتوجه إلى الأسس المعرفية من أجل تمحيصها بدقة، ثم إعادة بنائها من جديد. (مثال سلة التفاح)، وعملية الهدم وإعادة البناء تتطلب تحررا من كل القيود الحسية والفكرية التي تمنع من الانخراط في هذا الإنجاز. وفعل التوجه إلى الأسس يوفر على ديكارت ضياع الوقت والجهد في مراجعة الجزئيات، لهذا قرر رفض أية فكرة يعثر فيها على أدنى عنصر شك. وهذا واضح من قوله: "بما أن هدم الأسس يتلوه ضرورة انهيار بقية البناء كله، فإني سأوجه هدمي أولا إلى المبادئ المؤسِّسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة".  3- موقف ليبنز: أهمية الرأي القائم على الاحتمال في بناء المعرفة  يرى الفيلسوف الألماني ليبنز أن الرأي المبني على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة العلمية، وخاصة في مجال المنطق، عندما يصعب الحسم في قضية معينة بشكل قطعي، فتتوفر لدينا بعض المعلومات والمعطيات. آنذاك ، يمكن الاستعانة بهذا الرأي الاحتمالي لبناء المعرفة وتكوينها. وفي هذا الصدد، يقول ليبنـز:" إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف.وبدون الدخول في نزاعات لفظية ، فأنا اعتقد أن البحث في درجات الاحتمال سيكون أكثر أهمية لنا، وهو ما نفتقر إليه، إذ يعتبر بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا. ذلك، أننا عندما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بشكل قطعي، فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، ومن ثم نستطيع أن نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكبر جلاء." خلاصة تركيبية:  إذا كان الرأي عائقا معرفيا، يجب القضاء عليه كليا ، لأنه يتعارض مع المعرفة العلمية حسب باشلار، كما يجب مراجعة الآراء السابقة لأن معارفنا وأفكارنا التي تلقيناها منذ الصغر تحتوي على قدر كبير من الأخطاء من وجهة نظر ديكارت ، فإن ليبنز يدعو إلى الاهتمام بالرأي القائم على الاحتمال لأنه قد يستحق اسم المعرفة . هكذا نرى أن الرأي يتأرجح بين اليقين واللايقين ، حيث يشكل عائقا معرفيا ثارة ، لكن ثارة أخرى يكون مصدرا من صادر بناء المعرفة.
المجزوءة الثانية: المعرفة 
 المفهوم الثاني : الحقيقة
 المحور الثاني : معايير الحقيقة
 الإطار الإشكالي للمحور:  عديدة هي اللحظات التي يجد فيها الإنسان نفسه أمام معرفتين، واحدة سليمة والأخرى خاطئة، لكنه مع ذلك لا يعرف بوضوح الحدود الفاصلة بينهما. هذا ما يستدعي منه ضرورة البحث عن أساس يكوم بمثابة مرجع له وللجميع من أجل التمييز بين ما هو حقيقي وما غير حقيقي، ويتم على ضوئه كذلك القطع مع كل المحاولات والمجهودات التي تسعى إلى جعل الحقيقة مجالا لآراء الذات ومنظورها الخاص. فكيف تتأسس؟ وما هو معيار صدقها، هل هو مطابقتها للواقع أم للفكر أم لذاتها؟  1- موقف روني ديكارت : معياري الحدس والاستنباط:  إن العقل عند ديكارت يحتوي على نوعين من الأفكار: أفكار بديهية، و أفكار استنباطية. و بالتالي فان ديكارت يحدد معيارين رئيسيين للحقيقة هما الحدس و الاستنباط . والحدس عنده هو إدراك عقلي خالص و مباشر، ينصب على أفكار بديهية و متميزة في الذهن بحيث لا تحتاج إلى استدلالات عقلية، كأن أدرك أنني موجود أو أن شكل المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع، أما الاستنباط فهو إدراك للحقيقة أيضا إلا أنه غير مباشر، بموجبه يتم استخلاص حقائق جديدة من الحقائق البديهية الأولية على نحو منطقي صارم . لذلك فالحقائق التي يُتوصل إليها عن طريق الاستنباط لا تقل أهمية و يقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، مادامت صادرة عنها بواسطة حركة فكرية مترابطة و متصلة، تُفضي إلى نتائج ضرورية .  2- موقف ايمانويل كانط : المعيار الكوني المنطقي للحقيقة:  يعتبر كانط أن البحث عن المعيار الكوني للحقيقة يستدعي طرح السؤال: هل المعيار من طبيعة مادية أم طبيعة صورية...؟ ليؤكد على أنه من غير الممكن أن يوجد معيار مادي وكوني للحقيقة، لأن الإقرار بوجوده سيقود إلى إلغاء الاختلاف بين الأشياء والموضوعات، وهذا نوع من العبث أن نتجاوز كل اختلاف بينها. في مقابل ذلك إذا كان الأمر يتعلق بمعايير صورية وكونية فمن اليسير أن نقر بجواز ذلك، لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها، كالمعرفة الرياضية التي تشكل نموذجا لهذه المطابقة بين المعرفة وذاتها. لأنها تمثل معايير منطقية وكونية تنسجم مع قوانين الفهم والعقل. ومن تمة تكون المعايير الصورية والكونية للحقيقة ليس شيئا آخر سوى المعايير المنطقية والكونية، أي القوانين الكونية للفهم والعقل.  خلاصة تركيبية:  هكذا يقدم كل ديكارت نظرة أحادية الجانب للحقيقة فديكارت يميل إلى العقل ويجعله مصدر الحقيقة لكن كانط يقدم تصورا نقديا للحقيقة معتبرا أن هذه الأخيرة لا توجد في الذهن على نحو فطري كما يقول ديكارت، وليست معطاة بالواقع الحسي كما يزعم لوك، وإنما تبنى وتشيد. فالحقيقة تبقى إذن مشروطة لما تعطيه التجربة للعقل، وما يمد به العقل معطيات التجربة.
المجزوءة الثانية: المعرفة
 المفهوم الثاني : الحقيقة 
المحور الثالث : الحقيقة كقيمة
 الإطار الإشكالي للمحور: تطلق القيمة على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته، وقيمة الشيء من الناحية الذاتية هي الصفة التي تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه... أما من الناحية الموضوعية فتطلق على ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا للتقدير. فالحديث عن قيمة الحقيقة إذن يتعلق أساسا بخصائص تتميز بها الأفكار وتجعلنا نهتم بها ونرغب فيها. من هنا يحق لنا التساؤل: ما الذي يجعلنا نرغب في الحقيقة؟ وأين تكمن قيمتها بالنسبة لنا؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لإشباع حاجات أخرى؟ وهل للحقيقة قيمة أخلاقية سامية ومطلقة أم قيمة نفعية نسبية؟ 1- موقف ويليام جيمس:  الحقيقة مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة يرى وليام جيمس أن قيمة الحقيقة لا تكمن في ذاتها ، وإنما في مطابقتها للواقع، أي في ما تحققه من مصلحة ومنفعة فكرية أو مادية، ولا وجود لأية حقيقة متعالية ومعزولة عن مصالح الناس ورغباتهم، فهي مجرد وسيلة مرتبطة بطبيعة الحياة البشرية في تغيرها وصيرورتها، نستعملها من أجل بلوغ منافع واقعية عملية قابلة للقياس، يقول جيمس: "الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما"، فالحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، وبالتالي فهي تتحكم في الحقيقة بدورها وليس العكس، ذلك أن "امتلاك أفكار صحيحة صادقة يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل"، وكل ما لا يقبل التحقق وفق مبدأ "المصلحة فوق كل اعتبار" لا يصح أن نعيره أي اهتمام، لأنها حيث ما كانت المصلحة العملية فثمة الحقيقة، لذلك وكما نُنتج الأشياء لننتفع بها في حياتنا فإننا ننتج الحقائق والأفكار لأنها نافعة، ويُلخص ذلك بقوله: "الحقيقي هو المفيد".  2- موقف ايمانويل كانط:  الحقيقة واجب أخلاقي على النقيض تماما لما سبق يرى ايمانويل كانط أن : "قول الحقيقة أمرا واجبا أخلاقيا... بعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات تطبيقه"، أي أنه من الواجب على الفرد مثلما على الجماعة والإنسانية جمعاء الامتثال لصوت الواجب الأخلاقي كالتزام كوني مطلق يفرضه العقل ويتعالى عن ميولاتنا وحاجاتنا وظروفنا ومصالحنا، يقول كانت: "الحقيقة واجب مطلق يسري في جميع الظروف والمناسبات". ومادامت الحقيقة غاية وليست وسيلة، فلا يجوز مثلا الكذب حتى ولو كان فيه عِتق رقبتنا من الموت، يقول كانط: "إن مَن يكذب مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه، وأن يؤدي ثمن موقفه كيفما كانت النتائج"، فإذا كان الكذب قد يحقق مصلحة ذاتية فإنه مفسدة للإنسانية جمعاء لأنه انتهاك لحق الصدق وحق الاحترام الكونيين، وإذا ما أخضعنا الحقائق لمزاجنا وأهوائنا فإن هذه الحقائق ستفقد معناها وقدسيتها وتنتقل من حكم الواجب المطلق إلى حكم المباح، بل ستصير مبتذلة وغير محترمة .  خلاصة تركيبية:  يتضح مما سبق أن الحقيقة تتأرجح بين تصورين متناقضين، الأول يرى أن الحقيقة غاية في ذاتها ، وقول صدق واجب على كل شخص (كانط). بينما الثاني يرى أن الحقيقة مجرد وسيلة الهدف منها تحقيق المنفعة والمصلحة(جيمس) فالحقيقي هو المفيد والصالح.

إرسال تعليق

 
Top