-->

0
المجزوءة الأولى : الوضع البشري 
المفهوم الأول : الشخص
 تقديم عام للمفهوم:  سنتحدث في هذا المقال عن أول مفهوم من مفاهيم الوضع البشري و هو مفهوم الشخص لكن قبل معالجة القضايا التي يتكون منها هذا المفهوم ، لابد أن نتعرف على مختلف الدلالات التي يحملها هذا المفهوم . كالدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية.  إن مفهوم الشخص في اللغة العربية يدل على البروز والظهور فنقول مثلا زيد شخصت عيناه لما رأى موت أخيه مباشرة جراء حادثة سير. أي أن عيناه ظهرت وبرزت من الصدمة والدهشة. كما يطلق على كل جسم له ارتفاع. فالصبورة لها ارتفاع إذن فهي شخص. وهنا يبدو اشتراك الإنسان مع باقي الكائنات الأخرى في مفهوم الشخص .  لهذا سنحاول أن نتعرف على مفهوم الشخص في المعجم الفرنسي. فالشخص مشتق من الكلمة اللاتينية persona وهي تدل على القناع الذي يرتديه الممثل من أجل أداء دور ما على خشبة المسرح. لنلاحظ كيف أن مفهوم الشخص مفهوم غامض إذ يدل تارة على الاختفاء وتارة على الظهور والبروز .ولهذا سنحاول أن نوضح هذا المفهوم أكثر من خلال الوقوف على الدلالة الاصطلاحية له.  يتفق أغلب الفلاسفة على أن مفهوم الشخص يطلق على الذات الواعية المريدة الحرة. إذ يحدده لالاند في معجمه الفلسفي :" ككائن فردي، من حيث حيازته المزايا التي تجيز له المشاركة في المجتمع الفكري والأخلاقي للذوات: إنه، يتحدد باعتباره، وعي ذاتي، عقل، وقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، بين الخير والشر، إنه قدرة المرء على تحديد نفسه بأسباب يمكنه تسويغ قيـمتها أمام كائنات عاقلة أخرى."  وهنا سنتطرق إلى الحديث عن ثلاث مقاربات تعرف لنا الشخص.  أولا :  المقاربة الميتافيزيقية ، تناولت الشخص في كليته وتجرده وماهيته. فالشخص له خصائص جسدية بالإضافة إلى هوية تميزه عن باقي الكائنات الأخرى، وتميزه عن غيره من الأشخاص الآخرين.  ثانيا :   المقاربة الأخلاقية التي اعتبرت الشخص بما هو ذات أخلاقية تستوجب الاحترام والتقدير وعدم معاملته معاملات الأشياء. و يمكن القول بأن هذا التصور تبلور بشكل كبير وواضح مع فيلسوف الأخلاق ايمانويل كانط. ثالثا : المقاربة القانونية ، تعتبر الشخص كذات لها حقوق وواجبات كممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية وتحقيق الأرباح بطريقة قانونية . ومن واجبه في المقابل أداء الضرائب واحترام القوانين وعدم مخالفتها.  بناء على ما سبق يكمن أن نستنتج من خلال هذه المقاربات المحاور المكونة لمفهوم الشخص. فالمقاربة الميتافيزيقية يمكن أن نتحدث من خلالها عن الشخص والهوية وهو المحور الأول . أما المقاربة الأخلاقية فيمكن أن نتحدث من خلال عن المحور الثاني وهو الشخص بوصفه قيمة. أما المحور الثالث فهو الشخص بين الحرية والضرورة ويمكن استخلاصه من المقاربة القانونية.  فهل للشخص هوية؟ وهل هي ثابتة أم متغيرة؟ هل يمكن اعتبار الشخص غاية في ذاته أم مجرد وسيلة؟ هل الشخص حر حرية مطلقة أم أنه خاضع لمجموعة من الحتميات والإكراهات؟
المجزوءة الأولى: الوضع البشري
 المفهوم الأول : الشخص
 المحور الأول : الشخص والهوية
   الإطار الإشكالي للمحور : إن المقصود بالهوية أن الشيء هو هو ؛ فالهوية الفردية للشخص تنحصر في نظرته لنفسه وتعريفه لذاته ، وهذه الهوية لم تولد معه بل تشكلت من خلال المجتمع . وهكذا تظهر مبكرا إشكالية الهوية عند الطفل خاصة إذا كان ينمو في وسط تغيب فيه المرجعيات ، نقول أحيانا إن مشكلة الهوية مشكلة اليافعين. فكل شخص يقدم نفسه ك"أنا" ويضفي على تجاربه الشخصية طابعا ذاتيا حيث يتمركز الحديث حول الأنا. يقول لوك " لكي نهتدي إلى ما يكون الهوية الشخصية لا بد لنا أن تتبين ما تحمله كلمة الشخص من معنى، فيما أعتقد، كائن مفكر عاقل قادر على التعقل والتأمل، وعلى الرجوع إلى ذاته باعتبار أنها مطابقة لنفسها ،" إذن على أي أساس تقوم الهوية الشخصية: هل على أساس الوحدة والتطابق أم على أساس التعدد والاختلاف؟ كيف تتشكل الهوية الشخصية: هل في نطاق الاستقلال عن العالم والآخرين أم في نطاق الانفتاح الدائم على العالم والآخرين؟  1- موقف جول لاشوليي:  يدافع جول لاشوليي عن أطروحة أساسية مفادها أن المحدد الرئيسي للشخص هو هويته، أي تطابقه مع ذاته وهذا ما يميزه عن غيره، وبالتالي فأساس هوية الشخص هي وحدته النفسية في الزمان عبر مختلف لحظات تطوره المختلفة،أي أن هوية الشخص مرتبطة بأمرين: ثبات الطبع/المزاج ودوامه ثم ترابط الذاكرة وعدم انقطاعها؛ فثبات المزاج تطبع وجودنا النفسي بطابعنا الشخصي ما دام الطبع يتضمن طريقة تصرف الأنا بشكل تلقائي واعتيادي ضمن وضعية تواصلية محددة، وهو ما تضمنه استمرارية الذاكرة على مستوى وظائفها المتعلقة بضبط وتقنين والمحافظة وإحياء أو بعث محفزات أو معلومات للربط بين حاضر الفعل وماضيه، في ارتباط تسلسلي انتكاسي يقاوم النسيان ما أمكن لأن في ذلك خلخلة لهوية الأنا.  2- موقف روني ديكارت:  لكن ديكارت يؤكد أن الفكر هو ما يمثل هوية الشخص، فالتفكير خاصية ملازمة للذات من خلال ممارسة جملة من العمليات الذهنية ، مثل الشك و النفي والإثبات... وهي عمليات لا تنفصل عنها بل إنها دليل على وجودها الوجود اليقيني الذي لا يطاله الشك، وهذا ما نجد له صدى في عبارة الكوجيطو الشهيرة " أنا أفكر إذن أنا موجود " ومتى ما انقطعت الذات عن التفكير انقطعت عن الوجود.  3- موقف سيغموند فرويد :  غير أن "سيغموند فرويد" بوصفه عالما نفسيا يقدم تصورا ديناميا للهوية الشخصية مختلفا عن التصور الفلسفي الذي قدمه كل من ديكارت و لاشوليي، فهو يرى أنها تحتاج لعدة قوى: الأنا، الأنا الأعلى، الهو ومتطلبات الواقع. وتربط بين هذه العناصر علاقة تفاعلية، إذ يصدر اللاشعور عن مجموعة من الشهوات والرغبات والميولات يطلب الأنا تحقيقها دون الأخذ بعين الاعتبار بالضوابط الاجتماعية. فيحاول الأنا التوفيق بين تلك الأهواء ومتطلبات الواقع وأوامر الأنا الأعلى الذي يمثل الجانب الأخلاقي الذي يمارس الرقابة على سلوكاتنا، إذ يأمر الأنا بقمع كل رغبة تتنافى مع الواقع. هذا التفاعل يدل على وحدة الهوية الشخصية بالرغم من عدم ثبات الأنا، فهذا الأخير يتغير بحسب ما يكتسبه من العالم الخارجي .  خلاصة تركيبية :  من خلال ما سبق نستنتج أن مسألة الهوية الشخصية تتميز بالاختلاف. فقد تكون الأنا قائمة على الوحدة والتطابق وقد تكون متغيرة بتغير الشخص نفسه. ولكن من الأكيد أنها لا توجد في عنصر واحد. بل تكمن في جميع هذه العناصر : الجسد، الذاكرة، الشعور، التفكير، الطبع...المهم هو أن يكون الشخص بامتلاكه لهوية له قيمة تعلي شأنه وتميزه عن بين باقي الكائنات الأخرى
المجزوءة الأولى: الوضع البشري
 المفهوم الأول : الشخص
 المحور الثاني : الشخص بوصفه قيمة
 الإطار الإشكالي للمحور :  تتحدد القيمة بصفة عامة باعتبارها كل ما هو قابل للرغبة (وليس فقط ما هو مرغوب فيه) وعند الحديث عن قيمة الشخص فالمقصود بها أن الإنسان يتميز بامتلاكه لقيمة عليا، وميزة سامية تجسدها كرامته...التي تميزه عن غيره من الكائنات والموضوعات، لكن: كيف تتحدد قيمة الشخص الأخلاقية والمعنوية : هل من خلال النظر إليه كغاية في ذاته أم كوسيلة لتحقيق غايات أسمى منه؟ وما هي طبيعة الاحترام الموجه للشخص: هل هو احترام مطلق وغير مشروط أم أنه احترام نسبي ومشروط بمحددات خارجية؟  1- موقف ايمانويل:  كانط يرى كانط أن قيمة الشخص تتحدد في كونه غاية في ذاته يتعالى عن كل الموجودات، إنه ذات تمتلك عقلا وكرامة وحرية... منها يستمد قيمته هذه، وهي قيمة غير مشروطة كما هي قيمة الموضوعات والأشياء. إن هذا الإعلاء من قيمة الإنسان يعني أن الإنسان كائن يجب أن يبقى دائما فوق كل اعتبار،... بل إن قيمته، داخلية، مطلقة تتجاوز كل تقويم وكل تسعير، بمعنى أن الشخص لا يجب أن يتم إخضاعه للمساومة بأي شكل من الأشكال (لا في جسده، ولا في عرضه، ولا في أرضه و وطنه، ولا في عواطفه واعتقاداته، ولا حتى في صوته الانتخابي ...) يلزم إذن احترامه ومعاملته كغاية في ذاته لا وسيلة. يلزم على كل شخص أن ينظر إلى كل شخص كما ينظر تماما إلى ذاته، حيث أن الإنسانية بأكملها متجسدة فيهما. إن احترام الشخص المفرد احترام للإنسانية جمعاء .  2- موقف ايمانويل:  مونيي في نفس السياق نجد ايمانويل مونيي يؤكد أن الشخص ذات متميزة متعالية وهذا ما يجعلها غاية في ذاتها تبتعد عن كل الحتميات و الاشراطات الخارجية، إن الشخص ذات بعيدة عن التشيؤ والدراسة لأنها ذات مستمرة البناء عبر عمليات الشخصنة والتي هي عبارة عن حركة مستمرة للتحرر من كل عبودية داخلية أو خارجية . إن الشخصية حسب التصور الشخصاني ، تقوم على الإبداع الذاتي المستمر عبر عملية الشخصنة، مما يجعلها ذات هوية متميزة ، مفكرة، مريدة، تتطلب منا فهمها وتأويلها بعيدا عن كل أشكال المعرفة الموضوعية والأداتية. وفي هذا السياق يقول مونيي " كل شخص له معناه ... الشخص إذن ذات لا تتكرر ولن يحل مكانها أحد".  3- موقف جون:  راولز أما جون راولز فيرى بأن قيمة الشخص لا يمكن أن تتحقق إلا في حدود انتماء الشخص إلى نظام اجتماعي يقوم على فكرة العدالة، التي تجعل من الأشخاص كائنات حرة، ومتعاونة مع بعضها البعض. وهذا التعاون - في نظر راولز- لا يتحقق إلا إذا حاول كل شخص أن يعي أهمية الحياة الاجتماعية ، و يستوعب دوره في هذا الإطار ككائن يعول عليه بأن يكون عضوا اجتماعيا فاعلا، ومواطنا صالحا، يظهر حقيقته ككفاءة عقلية وأخلاقية تحترم الواجبات و الحقوق ، وتتمسك بحس العدالة الذي يجعلها تفهم فهما سليما أهمية الواجب، وتسعى دائما إلى حب الخير في كل ما له علاقة بالحياة الإنسانية، وذلك عندما تحترم التزاماتها، وتفهم ما لها و ما عليها.  خلاصة تركيبية:  يتضح مما سلف أن هناك إجماع بين الفلاسفة حول الإعلاء من قيمة الشخص باعتباره، كائنا عاقلا وذاتا أخلاقية. وهي قيمة قد ترتكز على كونه ذاتا لعقل أخلاقي عملي، كما قد تنبني على مشاركته وتضامنه وانفتاحه على الغير. لكن الحديث عن الشخص بوصفه قيمة يستدعي بالضرورة الحديث عن حرية الشخص باعتباره قيمة إنسانية مميزة للشخص، وهذا ما يثير التساؤل والتفكير في إمكانية اعتبار الشخص ذات حرة مستقلة، أم أنها ترتبط بشروط وضرورات.
المجزوءة الأولى: الوضع البشري
 المفهوم الأول : الشخص 
المحور الثالث : الشخص بين الحرية والضرورة
 الإطار الإشكالي للمحور :  رغم أن الشخص يتميز بهوية خاصة وقيمة متميزة، إلا أنه ينتمي إلى جماعة ومجتمع معين، ويعيش وفق شروط موضوعية تجعله يدرك أن وجوده مشروط بضرورات نفسية وبيولوجية داخلية أو ضرورات اجتماعية واقتصادية وثقافية خارجية. إن هذا الازدواج في بنية وجود الشخص هو ما يجعلنا نتساءل: هل الشخص ذات حرة أم أنه كيان خاضع لإشراطات وحتميات؟ بأي معنى يكون الشخص، باعتباره حرية وفاعلية ومشروعا، قادر على التعالي على كل الاشراطات والضرورات المحيطة به وتجاوزها؟  1- موقف اسبينوزا:  القول بالحرية يخفي جهلا بالأسباب.    يرى اسبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرارا في أفعالهم وأنهم يتصرفون وفق إرادتهم واختيارهم، لاسيما أنهم يكونون على وعي بما يقومون به، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك؛ فالناس يجهلون الأسباب الحقيقية لأفعالهم ورغباتهم والتي تحددها بشكل طبيعي وحتمي. إن التجربة تبين حسب اسبينوزا أن الناس لا يستطيعون التحكم في شهواتهم بما فيه الكفاية؛ ذلك أنهم غالبا ما يدركون الأفضل ومع ذلك يفعلون الأسوء وينتابهم الندم من جراء ذلك. وفي هذا السياق يقدم اسبينوزا أمثلة تتعلق برغبة الرضيع في حليب الأم، وبحالة الغضب التي تنتاب الشاب وهو يريد الانتقام، وبرغبة الجبان في الفرار، لكي يبين لنا من خلالها أن هؤلاء وغيرهم من الناس يظنون أنهم أحرارا أثناء قيامهم بتلك الأفعال وغيرها، إلا أن واقع الأمر عكس ذلك فهناك أسباب خفية تقف وراء أفعالهم تلك وتوجهها. هكذا فمن الوهم الاعتقاد حسب اسبينوزا، بأن الإنسان حر نظرا لجهله بالأسباب التي تحرك أفعاله وأقواله، وهي أسباب لا تخرج عن إطار الحتمية الطبيعية التي تخضع لها جميع الأشياء.  2- موقف سارتر: الحرية والمسؤولية.  يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي “كون الوجود سابق على الماهية”، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم. إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.  3- موقف سيغموند فرويد: الشخص ليس سيد أفعاله وتصرفاته.   يرى سيغموند فرويد أن الشخص ليس سيد نفسه وأفعاله، فالجزء الأكبر من سلوكاته وأفعاله يعود إلى حتميات لاشعورية ترتبط بتاريخ الفرد منذ طفولته المبكرة؛ وذلك من خلال تفاعل مكونات الجهاز النفسي، أي الهو ويمثل الميول والدوافع والغرائز؛ الأنا الأعلى ويمثل القيم والمعايير الاجتماعية التي يتشربها الطفل من محيطه عن طريق التنشئة الاجتماعية، الأنا وتقوم بوظيفة تنسيقية بين رغبات الهو وإملاءات الأنا الأعلى و إكراهات العالم الخارجي. وهذا التفاعل يوضح أن الشخص محكوم بحتميات لا شعورية قد لا يعيها، وتتجلى في مجموعة من السلوكات اللاواعية ( فلتات اللسان ، زلات القلم ، الأحلام ...) .   تركيب:  تأسيسا على ما تقدم، يتضح أن الشخص مسيج بجملة من الشروط والإكراهات، النفسية والاجتماعية والثقافية؛ والتي قد تتجاوز إرادته. غير أن قدرته على التخطيط لمشاريعه وتحقيق تطلعاته، لا تنفي قدرته على الفعل والاختيار...

إرسال تعليق

 
Top