-->

0
المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم الثالث : التاريخ
تقديم عام للمفهوم:
 إنّ وضع تعريف موحّد ومُتّفق عليه لمفهوم التاريخ أمرٌ فيه من الصعوبة الكثير، لأنّ الأحداث التاريخيّة التي وصلتنا عن التاريخ الإنسانيّ غير شاملة وغير موثّقة، وكل مؤرخ من المؤرّخين ينظر إلى هذه الأحداث من زاوية تختلف عن غيره، لذا فتعريفات الفلاسفة لهذا المفهوم اختلفت من مدرسة فلسفيّة إلى أُخرى ومن باحث إلى آخر.
إنَّ التاريخ عبارة عن فهم الماضي؛ لإفادة الحاضر، والتخطيط للمستقبل، وقد عبَّر السخاوي عن هذا المعنى بقوله: "إنَّه فنٌّ يُبحث فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيف؛ بل عمَّا كانَ في العالم    ".
وعرَّفه ابن خلدون بقوله: "التاريخ خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيِّ الذي هو عُمْران العالم، وما يَعرِض لذلك العمرانِ من الأحوال؛ مثل التوحُّش والتآنس، والعصبيَّات، وأصناف التقلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران من الأحوال، وهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيَّام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتؤدِّي إلينا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتَّسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمَّروا في الأرض حتَّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق".
عموما فالتَّاريخ: هو ذلك الفرع من المعرفة الإنسانيَّة، الذي يستهدف جَمْع المعلومات عن الماضي وتَحقيقها، وتسجيلها وتفسيرها، فهو يسجِّل أحداثَ الماضي في تسلْسُلها وتعاقُبها تارةً، وتزامُنها تارة أُخرى، لكنَّه لا يقف عند تسجيل هذه الأحداث؛ بل يفسِّر التطوُّر الذي طرأ على حياة الأمم والمجتمعات والحضارات المختلِفة، ويبيِّن كيف حدث هذا التطوُّر، ولماذا حدث.
فالتاريخ يشكل ماهية  الإنسان وكينونتها، وإذا كان التاريخ هو معرفة بالماضي الإنساني،  فإن هذا الماضي الذي انقضى وانتهى يطرح إشكالا مرتبطا بطبيعة المعرفة المنجزة حوله وإشكالا متعلقا بسيرورة التقدم التاريخي ودور الإنسان فيها.
لكن  من هنا يمكن أن نتساءل : هل معرفة التاريخ ممكنة أم مستحيلة؟ ما هي خصائص ومميزات هذه المعرفة  ؟ هل  يمكن معرفة التاريخ باعتباره معرفة علمية قائمة على المنهج أم أن المعرفة التاريخية مجرد معرفة سردية وأدبية تعتمد على الخيال؟
المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم الثالث : التاريخ
المحور الأول : المعرفة التاريخية
الإطار الإشكالي للمحور:
       لقد تشكلت في التاريخ مجموعة اتجاهات ومدارس هاجسها جعل التاريخ علما كباقي العلوم الحقة. من أهم هذه المدارس الوضعانية أو ما يسمى بالوثائقية التي اعتبرت الوثائق مادة الملاحظة والتجريب لإعادة بناء الأحداث التاريخية بدقة وموضوعية. تتمثل الوثائق في السجلات والأرشيف والمعاهدات والمراسلات والنقود وغيرها.. ومهمة المؤرخ جمع تلك الوثائق باعتبارها آثارا دالة على الحدث الذي ينبغي على المؤرخ إعادة بنائه بتسلسل وقائعه.
-علم التاريخ هو معرفة الماضي
 هنري مارو :
يرى هنري مارو أن التاريخ هو المعرفة العلمية المكونة عن الماضي ، حيث أن المعرفة التاريخية ليست عملا أدبيا أو وصفا أو إعادة كتابة  فقط  ، إنما هي معرفة علمية ينشئها المؤرخ اعتمادا على منهج علمي دقيق وصارم. فالمعرفية التاريخية إذن تختلف ، بل وتتعارض مع المعرفة العامية التي تستند إلى التجربة اليومية الجاهزة والمعطاة. في حين أن  المعرفة التاريخية هي معرفة مبنية تتشكل تبعا لمنهج منظم وصارم يمثل العامل الأنجع لبلوغ الحقيقة على حد قول هنري مارو.
-التاريخ ليس معرفة علمية
غاستون غرانجي:
   إن التاريخ حسب غرانجي لا يعتبر واحدا من العلوم الإنسانية ، لذلك لا يجب الخلط بينه وبين وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد،...، فهو معرفة إكلينيكية نظرية تفتقر إلى التطبيق والحال هكذا، يجعل من التاريخ تخصصا متميزا و فريدا، لأن التاريخ (في نظره) لا تقدم نماذج و قوانين علمية تعالج الظواهر و الوقائع بقدر ما تعمل على إعادة بناء الوقائع الماضية حسب رؤية المؤرخ، مما يجعله يتأرجح بين ما هو جمالي فني يدخل في إطار الرواية، و ما هو صوري يدخل في إطار العلوم الاجتماعية. لذا ينفي غرانجي صفة العلمية عن التاريخ، إذ يعتبره مجرد ايديولوجيا، رغم بعض المطامح التي تحاول أن تنزع به نحو الموضوعية.
خلاصة تركيبية:
   من خلال الموقفين السابقين يمكن القول أن المعرفة التاريخية على الرغم من القول باستحالة تحقيقها لصفة العلمية لأنها تتأرجح بين ما هو جمالي من جهة، وما هو صوري من جهة أخرى حسب وجهة نظر غرانجي . إلا أنها تحمل صفة وطابع العلمية ، باعتبار التاريخ هو إعادة بناء الماضي البشري وفق منهج منظم وصارم كما يرى  هنري مارو  .
المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم الثالث : التاريخ
المحور الثاني : التاريخ وفكرة التقدم
الإطار الإشكالي للمحور:
 إن قارئ التاريخ يمكن أن يعرف أن البشرية تقدمت أشواطا كبيرة بالمقارنة مع  البدايات الأولى لوجود الإنسان ، حيث لا يمكن أن ينكر أحد ذلك . لكن المشكل  الإبستمولوجي الذي يثيره البحث في التاريخ هو  كيفية ونوعية هذا التقدم  الذي حققته البشرية . وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل : هل هناك منطق ثاو خلف  تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل  هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق  للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته  التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ 
أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟
مفهوما التقدم والتطور.  
موقف إدوارد هاليت كار:
لإزالة الغموض الذي وقع في الفلاسفة والعلماء حاول "إدوارد هاليت كار" أن  يميز بين مفهومي التقدم و التطور . هذا الغموض نابع من الخلط أدى إلى    القول بتساوي وتطابق المفهومين السابقين. فالتقدم في نظر "كار" مرتبط  بالاكتساب الاجتماعي و قوانين السيرورة التاريخية. بينما يرتبط مفهوم التطور  بعلم الوراثة الذي ارتبط  بالبيولوجيا. إذن فقوانين التاريخ ليست مطابقة  لقوانين الطبيعة . هذا التقدم يتسم بالنسبية ، فالتاريخ لا يتجه دائما إلى  الأمام  بشكل خطي متصل، بدون توقف أو انعطاف بل يتسم بالانقطاع وعدم  الاستمرارية.
التاريخ ليس سلسلة متصلة الحلقات.  
موقف كلود ليفي ستراوس:
 ينتقد "ليفي ستراوس"  بشدة الأطروحات التي تسلم بفكرة التقدم الخطي .  فالتقدم البشري في نظره يتم عبر تحولات و قفزات فجائية. و هذا ما تؤكده  المعارف ما قبل التاريخية، والحفريات. حيث أثبتت وجود أنماط حضارية  مختلفة في المكان الواحد. و هكذا فالتطور البشري ليس تراكما تنضاف من  خلاله مكتسبات كل مرحلة إلى أخرى ، منفصل و غير مستمر، و يسير بدون  اتجاه عبر قفزات و طفرات. فحركية ومسار التقدم في التاريخ مثله مثل لاعب  النرد الذي يتقدم من خلال كل لعبة درجات معينة لكن ليست كلها درجات  عالية  في كل مرة وهكذا يظل معرضا لخسارة ما ربحه في المراحل السابقة.
خلاصة تركيبية:
بناء على ما سبق يمكن القول بأن التصورين السابقين تنتقدان التصورات  الفلسفية حول فكرة التقدم في التاريخ التي تقول بأن هذا التقدم خطي يسير  نحو الأمام بدون بشكل متصل. لكن "ستراوس" و "كار" يرفضان ذلك ،  فالتاريخ بالنسبة إليهما لا يسير بشكل خطي متصل الحلقات، بل هو عبارة عن فقزات ووثبات.
المجزوءة الأولى : الوضع البشري
المفهوم الثالث : التاريخ
المحور الثالث : دور الإنسان في التاريخ
الإطار الإشكالي للمحور: إن بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب كثيرة ومتعددة تجعلنا نفكر في أن الإنسان هو من يقوم بصناعة التاريخ ، لكن في نفس الوقت يمكننا القول بأن هذه البطولات وثورات صنعتها ظروف ملائمة لطبيعة تلك الأحداث . وهذا ما يدفعنا إلى التفكير في التساؤلات التالية : هل الإنسان هو الذي يصنع التاريخ ؟ وما هي طبيعة هذه الصناعة ؟ هل وعي الإنسان وإرادته الحرة هي التي تصنع الأحداث التاريخية أم أن هذه الأخيرة هي نتاج لعوامل موضوعية تتجاوز الإرادة الإنسانية نفسها؟ ألا يمكن الحديث عن حتمية تخضع لها الصيرورة التاريخية ؟  1 - الإنسان صانع تاريخه بكل حرية موقف جون بول سارتر: إن صناعة التاريخ البشري في نظر سارتر صناعة بشرية محضة، فالإنسان هو صانع تاريخه بكل حرية ولا يمكن اعتباره مجرد أدواة فاقدة للوعي. لكن انفلات صناعته من بعض الأشخاص لا تعني أن ليس صناعة بشرية ، بل يصنع من طرف أشخاص آخرين. هكذا فالتاريخ حسب سارتر هو نتاج للفاعلية البشرية التي تحقق من خلاله مشروعها الخاص، لكن هذا التاريخ مع ذلك سيظل غريبا عن الإنسان ما لم يتحرر من الاستغلال والهيمنة ويستفيد من كفاحه ومجهوده الذي سيمكنه من صنع التاريخ وتملكه، وإعطائه معنى يتماشى مع طموحاته وغاياته الخاصة. 2 - التاريخ بين حرية الإنسان وتدخل القضاء والقدر موقف نيكولا ميكيافيلي: ينتقد ميكيافيلي التصورات الحتمية التي ترى أن الإنسان لا يصنع التاريخ، بل أكثر من ذلك لا يقوى على تغيير الأحداث التاريخية. حيث يؤكد على قدرة الإنسان في تغيير الأحداث التاريخية وصناعتها، لكنه لا ينفي وجود قوى غبية تتدخل هي أيضا في صناعة التاريخ. هذه القوى يسميها ب"القضاء والقدر" . وعليه فالقضاء والقدر يصنع نصف التاريخ، بينما يصنع الإنسان النصف الآخر الذي يبقى بيده يعده كما يشاء لصد كل قدر جامح ومدمر. خلاصة تركيبية: نستنتج من خلال ما سبق أن علاقة الإنسان بالتاريخ علاقة جدلية ومتداخلة تتخذ وجهين مختلفين ، الوجه الأول يبلور الإنسان بمثابة أداة في يد التاريخ من أجل تحقيق ذاته. بينما الوجه الثاني يصور الإنسان كذات فاعلة في التاريخ ، هي التي تحركه وتصنعه وفق إرادته الحرة ووعيه الكامل بالشروط الموضوعية التي تدفعه إلى صناعة التاريخ .

إرسال تعليق

 
Top